ما يجري اليوم في الشرق العربي ليس اشتباكاً عسكرياً عابراً، ولا نزاعاً حدودياً تقليدياً بين دولتين تختلفان أيديولوجياً. إنه صراع بأبعاد عالمية، بين معسكرات سياسية واقتصادية كبرى، وجولة جديدة من صراعٍ أعمق جذوراً، صراعٍ ينتمي إلى سياق حضاري وتاريخي يعود إلى بدايات القرن الماضي، يوم سقطت الدولة العثمانية ودخل الاستعمار الغربي بكل ثقله إلى منطقتنا.

منذ ذلك الحين، تغيّرت الخريطة، وتحوّل الشرق العربي إلى ساحة نفوذ وهيمنة للقوى الكبرى. وكان المشروع الصهيوني في فلسطين – "إسرائيل" – هو القاعدة الأمامية لهذا الاستعمار، مشروعاً استعمارياً استيطانياً وظيفياً، تقوده حركة تلمودية عنصرية (الصهيونية)، ويخدم سياسات الغرب الإمبريالية في نهب الثروات وضرب تطلعات شعوب المنطقة للاستقرار و التقدم.

لذلك، لا يمكن حصر الحرب القائمة اليوم بمزاعم مواجهة المشروع النووي الإيراني أو حماية البشرية من انتشار أسلحة الدمار الشامل. هذه ذرائع يُراد بها تبرير صراع أوسع بكثير، هدفه الحقيقي حماية منظومة الهيمنة الغربية ومنع أي قوى إقليمية من تعديل ميزان القوة.

لقد صمت العالم لسنوات عن أخطر تهديد أمني في الشرق الأوسط: الترسانة النووية الإسرائيلية. هذا الكيان السياسي لم يعلن يوماً امتلاكه لسلاح نووي، ولم يوقّع على معاهدة حظر انتشاره، ولم يخضع منشآته لأي تفتيش دولي. ومع ذلك، تُعامل إسرائيل وكأنها دولة "خارج القانون"، دون أن يرفّ للمجتمع الدولي جفن. والعالم بأسره يعرف أن المشروع النووي الإسرائيلي وُلد برعاية غربية، وعلى رأسها فرنسا.

في المقابل، دُمرت مشاريع نووية أو علمية في دول عربية وإسلامية، من مصر , العراق إلى ليبيا وسوريا، وها هي إيران اليوم تواجه حرباً متعددة الأوجه، فقط لأنها تُجرّب أن تبني مشروعاً نوويا للاغراض السلمية.

إن التناقض الصارخ في المعايير لا يمكن تفسيره إلا كحالة نفاق سياسي صارخة. فإسرائيل تمتلك ما يُقدّر بأكثر من 200 رأس نووي، وتُموّل عسكرياً من الغرب بشكل متواصل، بينما تُحاصر شعوب المنطقة وتُقصف وتُعاقب لمجرد امتلاكها طموحات علمية.

القوانين الدولية، كما يتضح، لا تُطبّق إلا على الضعفاء. أما الأقوياء وحلفاء "النظام الدولي"، فلهم الحصانة مهما بلغت جرائمهم. هذا الواقع هو ما يزعزع الاستقرار، ويُقوّض الثقة بالقانون الدولي، ويُغذي الصراعات.

إن ما يحدث في غزة اليوم هو التعبير الأوضح عن هذا التواطؤ. مدينة محاصَرة تُقصف ليل نهار، آلاف الشهداء، معظمهم من الأطفال والنساء، بُنية تحتية مدمرة، مشافٍ وأحياء سكنية سُوّيت بالأرض... ورغم ذلك، لا نسمع من العالم سوى دعوات باهتة "لضبط النفس"، بينما يستمر تدفق السلاح إلى الآلة الحربية الإسرائيلية.

الرسالة فاضحة وواضحة: إذا كنت فلسطينياً أو عربياً أو إيرانياً،او تركيا , افريقياً ام آسيوياً,  فإن حياتك أرخص من أن تُؤخذ في ميزان السياسة الغربية. أما إذا كنت جزءاً من منظومة الغرب، فلك مطلق الحرية في ما تفعل، ولا أحد يجرؤ على محاسبتك.

الولايات المتحدة، التي تصف نفسها بحامية الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة النووية ضد مدنيين، وهي نفسها التي قادت حروباً في أكثر من ثلاثين بلداً، أسقطت أنظمة، ودمرت شعوباً، تحت لافتة "نشر الحرية".

فمن هو التهديد الحقيقي للسلم العالمي؟

هل هو الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه؟

أم النظام الدولي الذي يُجيز لكيان سياسي مصطنع أن يذبح ويدمّر ويعتدي تحت سمع العالم وبصره؟

هل هو شعب يُحاصر ويُذلّ، أم منظومة تقودها "قوة عظمى" تحركها المصالح وحدها وتوزّع الأخلاق على مقاسها؟

إن ازدواجية المعايير ليست فقط أزمة أخلاقية، بل جريمة سياسية تمنع الاستقرار وتقوّض العدالة الدولية . ومادامت إسرائيل فوق القانون، ومادامت أمريكا تحكم العالم من منطلق "من معنا فله الحماية، ومن ضدنا فله الدمار"، فإن العالم سيبقى ساحة للدم والفوضى  و عدم الاستقرار.