في تركيا، ليست كرة القدم مجرد لعبة، إنها ساحة صراع سياسي، ومرآة تعكس التوترات الاجتماعية، ومنصة يتبارى عليها الساسة لنيل الشعبية، يتشابك النسيج الكروي في البلاد بشكل وثيق مع نسيجه السياسي، لدرجة يصعب معها الفصل بينهما، من المدرجات الصاخبة إلى المكاتب الرئاسية، أصبحت اللعبة الشعبية الأداة الأقوى في يد القوى السياسية، سواء للسيطرة أو للمعارضة.
يُعرف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعلاقته الوطيدة بكرة القدم، فهو لاعب سابق في نادي قاسم باشا، وظهر في مناسبات عديدة وهو يمارس اللعبة؛ لكن هذه العلاقة تتجاوز مجرد الشغف الرياضي، فقد استخدم أردوغان ونظامه حزب العدالة والتنمية اللعبة لتعزيز نفوذهم.
تُعتبر أندية إسطنبول الثلاثة الكبرى - غلطة سراي، فنربخشة، وبشيكتاش - هي القلب النابض لكرة القدم التركية، وكل منها يمثل شريحة اجتماعية وسياسية مختلفة، تقليديًا، ارتبط غلطة سراي بالنخبة العلمانية، بينما كان فنربخشة يمثل الطبقة الوسطى، وبشيكتاش يُعرف بصلاته بالطبقة العاملة وبمواقفه اليسارية الراديكالية.
لكن في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، تغيرت هذه الديناميات، على سبيل المثال، استطاعت الحكومة استقطاب عدد من رؤساء الأندية والشخصيات الكروية البارزة، مثل رئيس نادي فنربخشة السابق عزيز يلدريم، الذي واجه اتهامات بالفساد، لكن تم تبرئته لاحقًا، كما أن المشاريع الحكومية الضخمة المتعلقة بالملاعب، مثل بناء استاد ترك تيليكوم أرينا لغلطة سراي واستاد فودافون بارك لبشيكتاش، كانت جزءًا من استراتيجية أوسع لتوثيق الصلة بين الدولة والأندية.
في المقابل، لم تكن المدرجات التركية دائمًا خاضعة للسلطة، في عام 2013، خلال احتجاجات ميدان تقسيم الشهيرة، كانت جماهير الأندية الثلاثة، الذين يُعرفون بخصومتهم الشديدة، يداً واحدة في مواجهة الحكومة، هتفت جماهير بشيكتاش "إنها ليست إسطنبول، إنها تقسيم" بينما انضم إليهم مشجعو غلطة سراي وفنربخشة، مما حول الملاعب إلى ساحات للاحتجاج السياسي الموحد، هذه الأحداث كشفت أن كرة القدم يمكن أن تكون أيضًا منبرًا للمعارضة الشعبية.
هذا التناقض بين محاولات السيطرة السياسية والمقاومة من داخل المدرجات يمثل صراعًا مستمرًا، تستخدم السلطة القوة الأمنية لقمع أي مظاهر احتجاجية في الملاعب، وتشدد الرقابة على الشعارات والهتافات؛ لكن الجماهير، بدورها، تستخدم روح الدعابة والسخرية للتعبير عن مواقفها، مما يجعل من الصعب قمعها تمامًا.
لم يقتصر استخدام كرة القدم على الشأن الداخلي، فقد استغلها أردوغان في علاقاته الخارجية أيضًا، في عام 2008، نظمت تركيا وأرمينيا "دبلوماسية كرة القدم" حيث قام رئيس تركيا آنذاك عبد الله غول بزيارة يريفان لحضور مباراة بين المنتخبين، في خطوة تاريخية لكسر الجمود السياسي بين البلدين. ورغم أن هذه المحاولة لم تؤد إلى تطبيع كامل للعلاقات، إلا أنها أظهرت قوة اللعبة في فتح قنوات التواصل.
كما أن استضافة تركيا لبطولات دولية كبيرة، مثل نهائي دوري أبطال أوروبا، تُعد جزءًا من استراتيجية أكبر لإظهار تركيا كقوة صاعدة على الساحة العالمية، وتعزيز صورتها كدولة حديثة وقادرة على تنظيم أحداث كبرى.