يوليو 1952، التاريخ الذي يسبق إعلان قيام ثورة 23 يوليو بيوم واحد، غالبًا ما يُختزل في صورة ضبابية للملك فاروق وهو يلوّح بيده مودعًا من على ظهر اليخت "المحروسة". لكن خلف هذه الصورة، كان المشهد أكثر تعقيدًا، وأكثر درامية مما روته بلاغات الثورة أو كتب التاريخ الرسمية.

في ذلك اليوم، لم يكن الملك يتخيل أن سلطته انتهت بالفعل. ففي سراي رأس التين بالإسكندرية، كان فاروق يتابع بقلق تصاعد التوتر في القاهرة. تلقى تقارير أمنية تُشير إلى تحركات غريبة داخل صفوف الجيش، لكن لم يكن يتصور أن الأمر بلغ حد التمرد.

وقد أشار المؤرخ يونان لبيب رزق، في إحدى دراساته المنشورة بمجلة "الهلال"، إلى أن فاروق تلقى بالفعل تحذيرات مبكرة من بعض المقربين له، لكن "ثقته الزائدة في انقسام الجيش" جعلته يستهين بها.

الحكومة... عاجزة ومُهمّشة

رئيس الوزراء آنذاك كان اللواء حسين سري عامر، الذي تولى رئاسة الحكومة في يونيو 1952 بعد إقالة حكومة نجيب الهلالي. لكن حكومة سري كانت أشبه بحكومة تسيير أعمال، بلا تأثير حقيقي، خصوصًا مع اشتداد الغضب الشعبي إثر حريق القاهرة في 26 يناير، والهزيمة في حرب فلسطين 1948، والانهيار السياسي المتتالي.

وقد وصف الكاتب الصحفي مصطفى أمين في مذكراته "سنة أولى سجن" تلك الحكومة بأنها "مجرد حائط صد صامت، بين قصر الملك والمجهول الذي يقترب".

في يوم 22 يوليو، لم يكن للحكومة أي قدرة على وقف ما يحدث. كان حسين سري في حالة من الارتباك، ولم يتخذ أي إجراء مضاد. وعندما علم بتحرك الضباط الأحرار، لم يقدّم دعما للملك، بل فضّل الصمت ومراقبة المشهد حتى النهاية.

في داخل الجيش... انقسام صامت

لم يكن جميع رجال الجيش على قلب رجل واحد. بعض القادة الكبار، مثل اللواء حسين فريد (قائد المنطقة العسكرية الغربية) واللواء محمد نجيب (الذي صار لاحقًا أول رئيس للجمهورية)، كانت لهم تحفظات على فكرة القيام بانقلاب عسكري دون توافق سياسي.

وفي كتابه "كنت رئيسًا لمصر"، كتب محمد نجيب: "كنت أؤمن بأن التحرك العسكري يجب أن يُسبق باتفاق مدني واسع، لا أن يُفرض على الأمة فرضًا".

كما رفض بعض الضباط الأقدم سنًا المشاركة، واعتبروا أن ما يجري “مغامرة خطيرة” قد تؤدي إلى حرب أهلية. لكن تنظيم "الضباط الأحرار"، بقيادة جمال عبد الناصر، كان قد نسّق بشكل دقيق، واخترق مفاصل الجيش، ما جعل الانقلاب يتم بسلاسة نسبية ودون دماء.

الملك... بين العزلة والانكسار

في مساء ذلك اليوم، لم يكن الملك محاطًا بحاشية القصور المعتادة. اكتفى بجلسة قصيرة مع مستشاريه، وتلقّى أخبارًا مؤكدة أن القاهرة خرجت من يده. طلب أن يصله إنذار رسمي من قادة الجيش قبل أن يُقدم على أي خطوة، وجاءه الإنذار بالفعل، موقعًا من مجلس قيادة الثورة.

 

حاول الملك المراوغة، واقترح أن يعفي حكومة سري ويعين حكومة جديدة، لكن الأمر كان قد حُسم. في منتصف الليل، كتب وثيقة التنازل عن العرش لابنه الطفل أحمد فؤاد الثاني، ثم استعد للرحيل صباح اليوم التالي.

وتذكر المؤرخة لوتس عبد الكريم في كتابها "فاروق كما عرفته"، أن الملك كان قد استدعى كبير أمناء القصر لكتابة وثيقة التنازل في سرية، وحرص أن تكون مختومة بالختم الملكي.

مشهد الوداع... بعيون من شهدوه

في صباح 23 يوليو، تحرك الملك من القصر إلى الميناء وسط حراسة محدودة، دون أي مظاهر ملكية. الضباط وقفوا في صفوف غير منتظمة، بعضهم ينظر إليه بفتور، وآخرون بتأثر. كان في الثلاثين من عمره، يخرج من بلده للأبد، مطرودًا لكن دون إذلال.

 

وقد وصف محمد نجيب اللقاء قائلًا:

 "كان فاروق هادئًا على غير المتوقع، وطلب منا أن نحسن معاملة أسرته، وأن يُسمح له بأخذ بعض مقتنياته الشخصية"

(من كتاب "كنت رئيسًا لمصر").

نهاية ملك وبداية جمهورية

رحل فاروق، لكن لم يكن رحيله نهاية لشخص فحسب، بل لنظام ملكي استمر منذ محمد علي باشا سنة 1805. ومع أن قادة الثورة قدموا روايتهم للحدث في صورة "نهاية فاسدة لعهد انتهى"، إلا أن الساعات الأخيرة للملك فاروق تظل لحظة إنسانية تملؤها التناقضات: الحزن، الإنكار، والهدوء الغريب في وداعٍ لم يُكتب له أن يكون بطوليًا ولا مأساويًا... فقط كان ختامًا لتاريخ طويل، بقدر ما كان هشًّا في لحظته الأخيرة.