في لحظة فارقة من تاريخ مصر، لم تكتفِ ثورة يوليو 1952 بتغيير موازين الحكم، بل امتدت يدها لتُعيد تشكيل الوعي الجمعي، فلم تكن الكاميرا مجرد أداة ترفيه، بل تحوّلت إلى سلاح ناعم بيد النظام، يُعيد رسم صورة "الزعيم.
تحت حكم جمال عبد الناصر، دخلت السينما مرحلة جديدة من التوجيه والتأميم والسيطرة، فأُنتجت أفلام تمجّد الثورة وتُقصي كل ما ومن ينتمي لما قبلها، وتغيّرت خريطة النجوم، وظهرت أسماء وتوارت أخرى تحت ظل القبضة السياسية.
في هذا التقرير، نكشف كيف استُخدمت السينما كذراع ناعمة للسلطة، من التأميم إلى التمجيد، ومن الإقصاء إلى الاحتواء، ونستعرض كيف أصبح الفن مرآة للزعيم... أو ساحة صراع مكتوم بين الكاميرا والكرسي.
السينما كذراع ناعمة للثورة
بعد أن تولى الرئيس جمال عبد الناصر الحكم، أدرك جيدًا قوة السينما في التأثير على الجماهير، وخاصة في بلد يمتلك واحدًا من أكبر القطاعات السينمائية في المنطقة.
فقرر أن يستغل هذه الأداة السهلة وتطويعها لحساب مصلحته السياسة وتوجيه الشعب، بداية من مهاجمة الفكر الملكي والمتبقي من أنصاره في الشارع، من جهة أخرى الترسيخ لمبادئه التي أتى بها للثورة.
فأسّس "عبد الناصر"، منظومة رقابية محكمة على الإنتاج السينمائي، فتم توجيه الأعمال لخدمة "رسالة الدولة، ومنها جاء تأسيس"مؤسسة دعم السينما" والتي عن طريقها تم إنتاج أفلام تحدثت عن العدوان الثلاثي ومنها سلسلة أعمال مختلفة تدعم الثورة مثل "السمان والخريف" وغيرها من الأعمال.
ولم يقتصر الأمر على حالة التوجيه التي أقرها، بل أنها أتت من إيمان جيل مخرجي الخمسينات والستينات من الشباب المؤمنين بمبادئ الثورة، مثل صلاح أبو سيف، عز الدين ذو الفقار، أحمد بدر خان، نيازي مصطفى.
وبالتالي ظهرت الأعمال التي تجمد بصورة الزعيم متمثلة في "عبد الناصر"، والثورة ومبادءها من اتجاه أخر، وكان أبرزها، رد قلبي، بورسعيد، فتوات الحسينية، الله معنا، وغيرها من الأعمال.
تأميم السينما
مع قرارات التأميم للكثير من القطاعات في مصر عقب الثورة، جاء دور قطاع الإنتاج الفني، والذي انهى حالة الإنتاج المتنوع والشركات مثل شركة أفلام مصر العالمية التي أسسها المنتج والمخرج الإيطالي ماريو لاندو، وشركة ستديو مصر، والشركة المنتجة العربية لنجيب الريحاني ومؤسسة التوزيع السينمائي أيضًا، مع الإبقاء على الاستديوهات والشركات الصغيرة في ملكية أصحابها.
وبعدها تم إنشاء المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1962، لتتولى هي بعد ذلك زمام أمور عملية الإنتاج السينمائي في مصر بشكل عام، وتخرج منها الأعمال التي تكشف تفاصيل حقبة الستينات وما بعدها من عهد ناصر من وجهة نظر الدولة.
وقال الناقد الفني رامي المتولي، لـ"خمسة سياسة"، أن حقبة عبد الناصر السينمائية، طالها الكثير من الأخطاء كما طالها الكثير من النجاحات، فلا يمكن الحكم عليها قولًا واحدًا أنها تجربة سيئة، فهي كجزء من تجربته بشكل كامل حاول أن يجعلها حصنًا منيعًا أمنًا له يضمن الشعبية والعقل الجمعي المصري.
مُضيفًا، أنها بالتأكيد شابتها بعض الأخطاء الجسيمة التي لا يمكن التغاضي عنها، مثل تأميم شركات الإنتاج، وخروج أفلام من اتجاه موحد، حتى وإن حاول تبييض وجه النظام بخروج أفلام مثل "شئ من الخوف" وقيامه بإعطاء أوامر مباشرة بعرضه وما شابه ذلك من حوادث.
التحرر من قبضة ناصر
مع حالة الكبت الفني التي عاشتها مصر حتى النكسة وبعدها بقليل، أصبح هناك كاميرات مخرجين مستقلة تريد الخروج من القبضة التي وضعها نظام "ناصر" فوق رؤوسهم ولكن كان الحصار أكبر من خروج أعمال نتنقد النظام بشكل مباشر وقوي.
فكانت الانفراجه مع عهد الرئيس محمد أنور السادات وانتهاء عصر عبد الناصر، ليخرج المارد من القمقم، ويستغل السادات أفلام القمع لما سبقه من حكم في توطيد أواصر حكمه ودعمه في مواجهة الاتحاد الاشتراكي، لتخرج أفلام خبايا ثورة يوليو للنور، لنرى منها "الكرنك"، "إحنا بتوع الاتوبيس"، "الليل الاخير"، "زائر الفجر"، لينكشف الوجه الأخر لنظام الزعيم وتتغير هيبته تمامًا على الشاشة.
وفي هذا قالت الناقدة ماجدة خير الله، أن قمع عبد الناصر ونظامه للأعمال الفنية مع وجود جيل واعي ومثقف من المخرجين حينها، خلق حالة من الغضب على الثورة التي أمن بها الجميع، ومع النكسة تحول المجتمع بشكل كلي، وكان الإحباط سائد بين الشعب.
وأضافت، أن الأعمال التي خرجت للنور فيما بعد كانت بشكل انتقامي من النظام نكاية في نظام عبد الناصر، ولكنها كانت معبرة عن أوضاع وطن، وأطاحت بصورة الزعيم الذي لا يوجد له مثيل من وجهة نظر الشعب.
هل الثورة سبب خلاف عبد الحليم وعبد الوهاب
كان يرى عبد الحليم حافظ في محمد عبد الوهاب، الأستاذ والمعلم، ولكن نظام ثورة يوليو، وضع عبد الحليم حافظ في الصفوف الأولى ولقبه بصوت الثورة، وهو ما أدى إلى تراجع صورة عبد الوهاب.
لم يكن هذا الصراع مُعلنًا بصورة كبيرة، ولكن حب عبد الوهاب لصورة الزعامة الفنية التي عاش بها سنوات، أثر على نفسيته، وخلق روح الغضب بين الطرفين إلى أن تمت تهدئة الأوضاع بينهما.
فنانين ضد "ناصر"
مع تقدم عبد الناصر في الحكم كان هناك عدد من المناوشات مع الفنانين أصحاب الأصوات في عهد الملك فاروق، فكانت البداية مع تحية كاريوكا، والتي اعتقلت بشكل رسمي من قبل السلطة مع أعضاء من الحزب الشيوعي المصري حينها.
وجاء ذلك لانتقادها نظام الحكم ووصمه بأنه لا يفرق شيئًا عن أداء حكومة الملك، وهو ما لم تستطع الحكومة تحمله إطلاقًا وكان قرارها باعتقال كاريوكا، حتى لا تحرض الجماهير ضد النظام.
ولم تسلم حياة ليلى مراد من ديكتاتورية "ناصر" نفسه، فبعد عن طالتها شائعات عن زيارتها لاسرائيل عقب قيام ثورة يوليو وتبرعها لها بملغ مالي، أصيبت ليلى مراد بحالة نفسية صعبة وحاولت أن تبيض وجهها أمام جمهورها ولكن الأمر لم يمر مرور الكرام.
حتى تدخل به الصاغ محمد وجيه أباظه، وتم حل الأمور تدريجيا ولكن تطورت علاقته به ليتم الزواج بينهما، فتتبرأ ذمتها من الخيانة لمصربهذه الزيجة، ولكن ينصب عليها غصب عبد الناصر نفسه لعدم رضاه عن هذا الزواج.
ويترتب على ذلك مقاطعة الأفلام الخاصة بها في الدولة العربية، حتى عام 1958، لتضطر اعتزال الفن نهائيًا والبعد عن الأضواء والانفصال عن أباظه لغضب عبد الناصر، لتنتهي حياتها الزوجية والعملية بسبب ثورة يوليو.
المقربين من الملك
عُرف عن يوسف وهبي و أمينة رزق قربهم من الملك فاروق والنظام الملكي بشكل عام، وظهرت لهم العديد من الصور وهم يتوددون للملك ويقبلان يديه، وهو ما أدى إلى وجود حاجز بينهما وبين نظام عبد الناصر بشكل صريح.
حاول يوسف وهبي بعد الثورة أن يحسن الأوضاع وأن يتماشى مع النظام الجديد، رغم معرفة الجميع بالبكوية التي حصل عليها من نظام الملك، ولكن تقلص دوره في السينما واختفت عنه أدوار البطولة التي كان يتمتع بها.