بوزن يبلغ 1415 كيلوجرامًا.. الكعبة المشرفة تتزين بكسوتها الجديدة لعام 1447 هـ وسط ذاكرة تاريخية وصراعات سياسية
تبدأ الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، مع فجر الخميس الأول من محرم 1447 هـ، مراسم تغيير كسوة الكعبة المشرفة، في طقس سنوي يحظى بمتابعة العالم الإسلامي، حيث ترتدي الكعبة ثوبها الجديد الذي استغرق تصنيعه نحو 11 شهرًا داخل مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة بأم الجود.
وتتكون الكسوة الجديدة من 47 قطعة من الحرير الأسود المنقوش، طُرّزت بـ 68 آية قرآنية بخيوط من الفضة المطلية بالذهب عيار 24، ويبلغ وزنها الكلي 1415 كيلوجرامًا، لتصبح واحدة من أثقل وأدق الكسوات إنتاجًا من حيث التقنية والتفاصيل.
وتأتي هذه المناسبة الروحانية الكبيرة في ظل مسار طويل من التحوّلات التاريخية والسياسية، أعاد رسم خارطة "الكسوة" من الورش المصرية العريقة إلى المجمع السعودي المتطور.
قرون من الصناعة المصرية
لسنوات طويلة، كانت مصر هي المقر الأول لصناعة كسوة الكعبة، خاصة منذ عهد الدولة الفاطمية، ثم تأكد هذا التقليد في عهد محمد علي باشا الذي أسس "دار الكسوة الشريفة" في حي الخرنفش بمنطقة الجمالية في القاهرة عام 1817.وشكّلت هذه الدار رمزًا روحيًا وسياديًا، حيث كانت الكسوة تُنتج بخيوط الذهب والفضة على أيدي أمهر الحرفيين، ثم تُنقل في موكب احتفالي كبير يُعرف بـ"المحمل المصري"، وكان يخرج من القاهرة متجهًا إلى الحجاز وسط حشود شعبية واستعراضات عسكرية وروحية مهيبة، ترافقه احتفالات تمتد من القاهرة حتى الحجاز.
وخلال هذه الحقبة، أصبحت الكسوة أداة دبلوماسية ودينية في يد الدولة المصرية لتأكيد مركزها الإسلامي، وكان العام الذي تتألق فيه الكسوة بالتصميم الأفضل والمطرزات الذهبية الأكثر تميزًا، هو عام 1927، حينما أبدعت مصر في إرسال كسوة وصفت آنذاك بـ"الأجمل في التاريخ"، واكبت فيها تطور الزخرفة الإسلامية والفنية.
الانقطاع السياسي والتحول السعودي
لكن علاقة مصر بصناعة الكسوة لم تستمر، ففي عام 1962، وعلى خلفية التوترات السياسية بين مصر والسعودية، خاصة أثناء فترة الوحدة المصرية-السورية، وفي ظل هذه التوترات التي أثرت بالسلب على العلاقات بين البلدين الشقيقين، توقفت مصر عن إرسال الكسوة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومنذ ذلك الحين بدأت المملكة العربية السعودية في تصنيع الكسوة، بعد أن كانت تستقبلها من مصر لقرون.
وكانت السعودية قد أسست أول مصنع للكسوة بمكة في حي أجياد عام 1927، لكنه لم يدخل مرحلة الاكتفاء الذاتي إلا بعد تأسيس مجمع الملك عبدالعزيز في السبعينيات، والذي يشرف اليوم على عمليات دقيقة تشمل الغسيل والصباغة والنسيج والطباعة والتطريز والفحص.
كسوة 1447 هـ: تتويج لمسيرة الاستقلال الصناعي
كسوة هذا العام تجسد تتويجًا لمسيرة طويلة من التطوير السعودي في هذا المجال، حيث تمت مراعاة أدق المعايير في كل مراحل التصنيع، من تحلية المياه المستخدمة في الغسيل، حتى تطريز الآيات بخيوط من الذهب الخالص.
ومع نقل الكسوة الجديدة في مقطورة مخصصة من المجمع إلى المسجد الحرام، وفك المذهبات من الكسوة القديمة عصر الأربعاء 29 ذو الحجة، ثم بدء مراسم التركيب فجر الخميس، تكون المملكة قد جددت التزامها برسالتها في خدمة الحرمين الشريفين.
من الرمز السياسي إلى الأداء المؤسسي
تحوّلت كسوة الكعبة من رمز سيادي استخدمته القوى السياسية في القاهرة لترسيخ الشرعية الدينية، إلى مؤسسة متكاملة سعودية تعكس براعة تنظيمية ودقة هندسية.
واليوم، تلبس الكعبة حلتها الجديدة في كل عام، في مشهد يعيد إلى الأذهان ذكريات المحمل المصري والورش التاريخية، لكن في ثوب تقني حديث، يعكس الحاضر ويحترم التاريخ.