بينما كانت الميادين تكتظ بالجماهير المنادية بتصحيح مسار يهدد مؤسسات الدولة وبنيتها باسم "الشرعية"، كان هناك جيل كامل يراقب من خلف الشباك، ومن وراء شاشات التلفزيون. تجلّت دوافع ثورة 30 يونيو في إنقاذ الدولة من الانهيار، بعد عام من حكم جماعة الإخوان المسلمين، الذين سعوا في الأرض الفساد، تحت غطاء الديمقراطية بينما تسلّلوا إلى مفاصل الدولة، وفرضوا خطابًا دينيًا سلطويًا ألقى بظلاله على كافة نواحي الحياة.

جاءت الثورة بطابع استثنائي، إذ خرجت الجماهير العريضة مطالبة بالخلاص من تغلغل الجماعة في مفاصل الحكم. وبين الحشود، أو خلفها، وُجد جيل آخر لم يكن طرفًا مباشرًا في الحدث، لكنه عاشه بكل تفاصيله. جيل ظلّت صور الحشود محفورة في ذاكرته، وما زال صدى الميدان يرنّ في أذنه حتى الآن. جيل زد (1997–2012) لم يصنع الثورة، لكن ملامحها حُفرت في ذاكرته، لتشكل أول احتكاك حقيقي نحو الوعي السياسي وبناء الوطن.

جيل زد يمثل ثلث الشعب في ثورة يونيو

جيل زد كان يمثل حوالي 30% إلى 33% من سكان مصر وقت ثورة يونيو، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وقتها (2013). كشفت البيانات أن عدد سكان مصر بالداخل عام 2013 بلغ 83.7 مليون نسمة موزعة على 84 كم مربع، مشيرًا إلى أن عدد المصريين في الخارج يبلغ 8 ملايين نسمة، طبقًا لتقديرات وزارة الخارجية ليكون بذلك عدد سكان مصر بالداخل والخارج 92 مليون نسمة. عبر شهادات أبناء هذا الجيل، نستعرض كيف شكّلت ثورة 30 يونيو، الوعي السياسي في ذاكرة من لم يكن ناضجًا آنذاك.

 

 

نوصي للقراءة : مدفوع بالبيانات .... ٣٠ يونيو نقطة التحول.. كيف أصبحت مصر قوة بحرية إقليمية؟

أنا منزلتش الميدان.. بس كنت طرف في الثورة"

"في أحداث ثورة 30 يونيو كنت وقتها في المرحلة الإعدادية، تمنيت المشاركة، لكن بُعد المسافة بين قريتي ومواقع التظاهر منعني"، حسبما وصف أحمد، أحد أبناء جيل زد، ثم أضاف: "رغم ذلك، عشت تفاصيل الثورة بكل شغف، ومن وقتها، أصبحت متابعًا جيدًا للأحداث السياسية، وبدأت أتابع كل برامج التوك شو وأحلل اللي بيحصل بعين مختلفة."

وتابع، قائلًا: "نتيجة لزيادة الوعي السياسي، قررت أن أكون جزءًا فعليًا من المشهد السياسي، فانضممت إلى حزب مستقبل وطن، وشاركت في العديد من الفعاليات السياسية".

 

"الثورة غيرتني.. اخترت من يكمل نتائجها"

إسراء دردير، التقطت أطراف الحديث؛ وقالت بهدوء: "مكنتش في الميدان، بس كنت بشجع بقلبي كل خطوة ضد حكم الإخوان، وكنت متخيلة إن اللي جاي هيكون أحسن. الثورة أثّرت في طريقة تفكيري وقتها، عشان كده اخترت السيسي لكي تكتمل نتائج الثورة."

محمد عبده 26سنة - يتذكر تلك اللحظة ويقول: "كنت في أولى إعدادي، ومكنتش فاهم كل حاجة، بس كنت سامع الناس حواليّا بيقولوا إن البلد هتتغير، الكل فرحان في البيت، والكل حاسس إن في حاجة كبيرة بتحصل، حسّيت وقتها إن الثورة دي هتنقذ البلد من جماعة بتتكلم عن الديمقراطية والدين، لكن ما كانتش بتطبّقهم فعلًا".

واختتم حديثه؛ بقوله: "بعد 12 عام، أنا لسه شايف إن 30 يونيو كانت لحظة مهمة في تاريخ البلد."

جيل زد أكثر عرضة للاضطراب النفسي

وحول تأثير الثورات على وعي الأطفال والمراهقين رغم عدم مشاركتهم حينها، يقول الدكتور أحمد علام، استشاري العلاقات الأسرية والصحة النفسية، إن هذه الفئة تؤثر عليهم الأجواء المحيطة بهم. وأضاف "علام"، في تصريحه الخاص لـ"خمسة سياسة"، أن "الثورات تؤثر على تشكيل وعي الأطفال والمراهقين بالفعل حتى في حال عدم مشاركتهم فيها، دلالة على ذلك أن الأجيال تسمى بالحقبة الزمنية التابعة لها، فالجيل الذي عاصر الحرب العالمية الثانية أطلق عليه جيل العظماء، وهناك جيل الصمت وجيل الرخاء."

وتابع: "الجيل الذي عاصر الثورة أصبح لديه وعي، وتشكل لديهم وعي سياسي أكثر من الأجيال السابقة، فهم أكثر دراية بأهمية الجيش المصري وأهمية الشرطة، وأن عدم وجودهم فارق ويحدث تأثير كبير جدًا". وأوضح الدكتور علام أن هذا الجيل تحديدًا أصبح لديه اهتمام بالصحة النفسية، والعلاقات الأسرية، لأنه أكثر عرضة للاضطرابات والقلق والتوتر، فهو عاصر أوضاعًا غير طبيعية.

وقال: "رغم أن الثورة أجنت بثمارها، لكن هذا الجيل مرّ بفترات من عدم الاتزان، وعدم وضوح رؤية نتيجة للتعصب الذي ساد البيوت حينها، لأن المراهقين يتأثر عليهم الأجواء المحيطة، لذا أصبح هناك اهتمام بالصحة النفسية والاجتماعية بالنسبة لهذا الجيل."

 نوصي للقراءة : كنا هناك".. روايات من قلب الميدان بعيون من وثقوها في 30 يونيو

الأطفال والمراهقون كانوا الأكثر وعيًا وتأثرًا بثورة 30 يونيو

أما الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، فيقول إن الأطفال والمراهقين لديهم وعي أكبر من الكبار، بسبب شعورهم بالخوف على أنفسهم وعلى ذويهم. وأوضح في تصريحه الخاص لـ"خمسة سياسة"، أن الأمر انعكس بوضوح خلال ثورة 30 يونيو، حيث لاحظ، بحكم قرب منزله من قصر الاتحادية، مشاركة الأطفال في محيط التظاهرات، يرفعون الأعلام ويهتفون، وهو ما يدل على وعيهم بما يحدث، حتى وإن لم يفهموا بالصورة الدقيقة.

وأشار "فرويز" إلى أن هذا الوعي ظهر جليًا في تفاعل الأطفال مع الأعمال الفنية المرتبطة بالأحداث السياسية، قائلًا: "أكثر فئة كانت تتابع مسلسل الاختيار 1 والاختيار 2 هم الأطفال. كانوا حافظين أسماء مثل زكريا ومحمد مبروك، وفي ناس عيطت فعلًا عند استشهاد مبروك والمنسي."

وأضاف: "الأطفال والمراهقون كانوا واعيين جدًا إن في ناس بتحاول تدمّر البلد، وتغتال ضباط، وتفجر عربيات في الشوارع، وده زاد من حبهم للبلد."

وأكد أن الأطفال والمراهقين هم دائمًا الفئة الأهم في الثورات، حيث تستطيع البلد الاستفادة منهم، باعتبارهم الأكثر وعيًا. كما أشار إلى جانب إيجابي في أحداث غزة، فقد اهتم الأطفال والمراهقين بما يجري، وهو ما يعكس وعيًا سياسيًا وإنسانيًا في سن مبكرة.

وختم فرويز بقوله: "الشباب اللي عاشوا الثورتين، هم حاليًا الأكثر وعيًا بما حدث في مصر، ما يزيد من ولائهم وانتمائهم للبلد".

"الاختيار" يوثق 30 يونيو في ذاكرة جيل زد

لم يقتصر تأثير ثورة 30 يونيو على الوعي السياسي وانسحاب الجماهير العريضة من الميادين، بل امتد لاحقًا للأعمال الفنية التي وثّقت الأحداث، وعلى رأسها مسلسل الاختيار، الذي ظل عالقًا في أذهان الكبار والصغار. وبحسب استطلاع أجرته مؤسسة "بصيرة" في رمضان 2020، فإن 52% من الشباب تحت سن الثلاثين تابعوا المسلسل، ما يعني أن جيل زد كان الأكثر تأثرًا بأحداث "الاختيار"، وأصبح جزءًا من ذاكرتهم الوطنية.