في الذكرى الثانية عشرة لثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، لا تزال الذاكرة مفتوحة على مشاهد لا تُنسى، وصور لا تزال حية رغم مرور الأعوام. وبينما ينشغل البعض بسرد الروايات السياسية الكبرى، يبقى في الخلف صوت آخر لا يقل أهمية - صوت من نقلوا الصورة، وكتبوا اللحظة، وحملوا الحقيقة على أكتافهم من الميدان إلى الجريدة، ومن الهتاف إلى العنوان الرئيسي.
قبل الانفجار: داخل غرف الأخبار.. قلق وترقّب
لم تكن الأجواء هادئة في الأيام التي سبقت ٣٠ يونيو، التوتر كان في الهواء، والعين على الشارع في جريدة "البديل"، كانت الصحفية هند غنيم تستعد لتغطية من نوع مختلف، تقول: كنت أعمل محررة بالقسم السياسي في جريدة البديل، مسؤولة عن ملف الحركات الطلابية وبعض الأحزاب الإسلامية، وتم تكليفي وقتها بتغطية التظاهرات والمسيرات المنطلقة بمحيط ميدان التحرير ووسط البلد.

وتضيف مؤكدة أن ما حدث لم يكن مفاجأة:
"لم يكن الأمر مفاجئًا، فالأجواء قبل ٣٠ يونيو كانت تشير إلى حراك شعبي واسع، وكان الجميع يترقب لحظة الانفجار".
من جانبه، كان حسام السويفي يعيش لحظة تصعيد مختلفة تمامًا، من موقعه كصحفي في جريدة "الفجر"، يقول:
قبل 30 يونيو، كنت أعمل صحفيًا في جريدة الفجر، وكنت أنشر تحقيقات تكشف فضائح الإخوان، وهو ما قوبل برد رسمي من مؤسسة الرئاسة التي قدمت بلاغًا ضدي وضد رئيس التحرير ومدير التحرير، تتهمنا بمحاولة قلب نظام الحكم.

أما في جريدة "اليوم السابع"، فكان كامل كامل يخوض تغطية يومية دقيقة ومكثفة لتحركات التيارات الإسلامية، بتكليف مباشر من الجريدة: كنت أعمل وقتها مسؤولًا عن ملف الإسلام السياسي والتغطية الميدانية بجريدة 'اليوم السابع'، وكانت مهمتي تتمثل في المتابعة اللحظية لتحركات التيارات الإسلامية، سواء جماعة الإخوان والتنظيمات الموالية لها، أو السلفيين. كنت حاضرًا في أغلب الفعاليات والمؤتمرات، إلى جانب متابعة أي أحداث تقع على أرض الواقع بشكل مباشر.

نوصي للقراءة : مدفوع بالبيانات .... ٣٠ يونيو نقطة التحول.. كيف أصبحت مصر قوة بحرية إقليمية؟
ويضيف: "لم يكن هناك تكليف استثنائي، فالتغطية كانت من صميم عملنا اليومي كفريق صحفي في 'اليوم السابع'، منذ بداية ظهور حملة 'تمرد' وتوقيعاتها، كان لدينا شعور واضح بأن 30 يونيو ستكون بداية لنهاية حكم جماعة الإخوان، وبداية جديدة لمسار سياسي مختلف".
شيماء الزلباني، من ناحيتها، كانت توثق ما يجري لحظة بلحظة، ليس فقط للصحف المحلية، بل لوسائل إعلام عربية أيضًا: "كنت أراسل عددًا من الصحف العربية، وكنا نتابع توقيعات حملة تمرد ونرصد نبض الشارع لحظة بلحظة".
حين انفجرت اللحظة.. وكان الميدان هو الرواية
مع حلول يوم ٣٠ يونيو، تغيرت القاهرة الشوارع امتلأت، والميدان صار وطنًا صغيرًا لكل من نزل، هند غنيم كانت في قلب الصورة: "تمركزت في ميدان التحرير، وتابعت المسيرات القادمة من شارع طلعت حرب وقصر النيل ومحمد محمود، وكان النفور الشعبي ظاهرًا، والأعلام ترفرف، والهتافات تعلو: يسقط يسقط حكم المرشد.. ارحل يا مرسي".
وتتابع: "حدثت بعض المناوشات بين مؤيدي الرئيس المعزول مرسي ومؤيدي حركة تمرد وجبهة الإنقاذ في بعض الشوارع الداخلية بمحيط وسط البلد، وقامت قوات الأمن بتفرقة الطرفين وفرض كردون لحماية المتظاهرين بميدان التحرير."
على مقربة، كانت شيماء الزلباني تلتقط لحظة نادرة لم يتكرر مثلها كثيرًا:
"كنت في الجهة المقابلة للمتحف المصري، وكانت الطائرات المصرية تلقي أعلامًا وورقًا مكتوبًا عليه (تحيا مصر)، رأيت الميدان يهتف من قلبه (تحيا مصر.. تحيا الجيش)، وكان الهتاف موجع ومؤثر".
وتضيف:"في لحظة صلاة للمسلمين، شكل الأقباط جدارًا بشريًا لحمايتهم، وفي مشهد آخر، شكل الشباب المسلمون دائرة لحماية الفتيات، وكنت واحدة منهم."
نوصي للقراءة: هل كانت 30 يونيو انقلابًا؟ شهادات الصحف الغربية تكشف الحقيقة
كامل كامل بدوره كان على الأرض، ينتقل من نقطة إلى أخرى وسط الزحام:
"كنت متواجدًا في الميادين والشوارع، أتابع الفعاليات لحظة بلحظة. من أبرز المشاهد التي لا تُنسى خروج المواطنين بأعداد هائلة، ليس فقط للتظاهر، بل للاحتفال أيضًا بما كانوا يعتبرونه نهاية لحكم جماعة الإخوان، وبداية لاستعادة الدولة."
أما حسام السويفي، فكان يشارك في مظاهرة ضخمة تحركت من سراي القبة إلى قصر الاتحادية، ويوثق لحظة وحدة الشارع ضد ما اعتبروه اختطافًا للدولة:
"شاركت في مظاهرة حاشدة من سراي القبة إلى الاتحادية، والهتاف كان: يسقط كل من خان.. فلول وإخوان، وكان الشارع كله ضد اختطاف الدولة من مكتب الإرشاد."
الصحفي بين التوثيق والاستهداف
لكن لم يكن الأمر كله احتفالًا. فالصحفيون الذين غطوا الأحداث كانوا أيضًا مستهدفين. السويفي يتحدث عن تهديد رسمي:
"تلقيت تهديدًا مباشرًا عبر بلاغ من الرئاسة، فقط لأنني نشرت تحقيقات ضد الجماعة. كانت الجماعة لا تحتمل النقد أو الصوت المستقل."
ويضيف: "مرسي لم يكن يحكم، بل كان ينفذ تعليمات قادة الجماعة وعلى رأسهم خيرت الشاطر، الذي زرع رجاله داخل قصر الاتحادية، مثل عصام الحداد وأحمد عبد العاطي وأسعد الشيخة ومحمد الفطاوي وغيرهم من عناصر الجماعة."
كامل كامل يروي قصة أكثر خطورة، تتعلق بالاعتداء المباشر عليه:
"تعرضت للقبض عليّ أكثر من مرة من قِبل ما كان يُعرف بـ'لجان التنظيم' التابعة لجماعة الإخوان، خصوصًا أثناء تواجدي في محيط اعتصام رابعة العدوية. كان بعض عناصر الجماعة يستجوبونني بسبب عملي في 'اليوم السابع'، وكأن مجرد انتمائي للمؤسسة يُعد تهمة في نظرهم."
لكن الزلباني كانت ترى المشهد من زاوية مختلفة:
"على عكس ما حدث في 25 يناير، 30 يونيو كانت آمنة. الأمن والجيش كانوا في الميدان، والناس كانت تشعر بالحماية والتضامن."
هتافات وأرواح لا تُنسى
الهتافات التي دوّت في الميدان ما زالت حاضرة في الذاكرة، تقول الزلباني: "الهتاف الذي لا أنساه كان (انزل يا سيسي.. مرسي مش رئيسي)، والهتاف كان يهز الأرض، بينما كانت الناس تخبط أقدامها من الحماس".
وتضيف: "هتاف (علّق وانفخ وإحنا معاك) كان واحدًا من الهتافات الساخرة التي تعكس رفض الجماهير لحكم الإخوان."
أما السويفي، فيتذكر لحظة من أصعب اللحظات في حياته المهنية:
"كنت أول من تقدم ببلاغ رسمي ضد محمد مرسي و14 متهمًا آخرين في 6 ديسمبر 2012، على خلفية مقتل الصحفي الحسين أبو ضيف، واتهمت فيه قيادات مثل خيرت الشاطر، ومحمد البلتاجي، وعبد الرحمن عز، وأحمد المغير، وآخرين."
ويتابع:"حاولت الجماعة تلفيق المشهد وتزييفه، لكننا استطعنا أن نثبت بالأدلة أن أبو ضيف قُتل برصاص الجماعة، كما تبع ذلك سقوط مزيد من الشهداء مثل كريستي، والجندي، وجيكا، وغيرهم."
ما بعد الزحام: أثر لا يُمحى
بعد أن هدأ الميدان، بقيت الرواية، وبقي أثرها على كل من شارك فيها.
كامل كامل يقول:"عمّقت تجربتي في التغطيات الميدانية، ومنحتني خبرات عملية وثّقت بها لحظات محورية في تاريخ الوطن. كانت تجربة مهنية وإنسانية لا تُنسى، أثّرت كثيرًا في مسيرتي الصحفية."
هند غنيم ترى أن ما حدث كان حالة شعبية نادرة:
"ما ميّز 30 يونيو هو أنها جاءت بإرادة شعبية صافية، وأن الناس خرجت بوعي بعد تجربة مريرة، عدد كبير من وسائل الإعلام المحلية والقنوات قامت بنقل التظاهرات والتجمعات بمختلف الوسائل ونقل صورة حية ومباشرة من الميدان وقتها."
الزلباني تستحضر دعمًا معنويًا لا يُنسى:
"تلقيت رسائل دعم من صحف خليجية تقول: ربنا معاكم يا مصريين. كنت فخورة أني وثقت هذه اللحظة. الفترة دي كانت من أقوى فترات شغلي، وشرفت إن عندي في أرشيفي شغل توثيقي لحدث تاريخي زي ده."
ويؤكد السويفي: "30 يونيو كانت لحظة استرداد لإرادة الشعب، لأن مصر لا يمكن أن تُحكم بتنظيم سري أو أيديولوجية مغلقة. هذه دولة كبيرة تحتاج إلى قيادة وطنية حقيقية، لا جماعة تعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة."
الرواية التي لا تنتهي
٣٠ يونيو ليست ذكرى فقط، إنها يوم لم يكن فيه الصحفي مجرد ناقل للحدث، بل كان جزءًا منه، يحيا الخطر ويكتب الأمل، الذين كانوا هناك لا ينسون، ونحن لا يجب أن ننسى، لأن التاريخ لا يُكتب فقط بالقرارات، بل يُكتب أيضًا بالهتاف، والصورة، والمقال.