في حقبة تاريخية مثيرة للجدل، تحوّلت كرة القدم من مجرد لعبة إلى ساحة تعكس الأحداث السياسية الكبرى، لم يكن هناك مثال أكثر وضوحًا على هذا التداخل من قصة ضمّ المنتخب النمساوي إلى نظيره الألماني، عقب عملية الأنشلوس أو ضم النمسا إلى ألمانيا النازية في مارس 1938، هذا الحدث لم يغيّر الخريطة السياسية لأوروبا فحسب، بل أحدث زلزالًا في عالم الرياضة، حيث فُرض على نخبة من أفضل لاعبي كرة القدم في النمسا ارتداء قميص منتخب ألمانيا.
قبل عام 1938، كانت النمسا قوة كروية لا يُستهان بها، كان منتخبها يُعرف بـ"فريق العجب، بقيادة الأسطورة ماتياس سـينديلار، كان هذا الفريق يتمتّع بأسلوب لعب هجومي وجميل، وصل إلى نصف نهائي كأس العالم 1934، وكان من المرشّحين البارزين للتأهل إلى نهائيات 1938؛ لكنّ القدر كان له رأي آخر.
مع دخول القوات الألمانية إلى النمسا، انتهت دولة النمسا المستقلة، ومعها انتهى منتخبها الوطني، لم يكن الأمر مجرد اتحاد سياسي، بل كان ضمًا قسريًا لكلّ مؤسسات الدولة، بما في ذلك اتحاد كرة القدم، كانت السياسة النازية تهدف إلى إظهار "الوحدة" بين الشعبين، ولم يكن هناك أفضل من كرة القدم لإثبات ذلك على الملأ.
لم يكن ضمّ اللاعبين عملية سهلة، البعض، مثل ماتياس سـينديلار، رفض بشدة ارتداء القميص الألماني، كان سـينديلار بطلاً قوميًا في النمسا، ورأى في هذه الخطوة خيانة لبلاده، في إحدى المباريات الاحتفالية بين النمسا وألمانيا، التي أقيمت في فيينا قبل حلّ المنتخب النمساوي، سجّل سـينديلار هدفًا ولم يحتفل، بل رقص أمام كبار المسؤولين النازيين، في إشارة إلى رفضه التام للضمّ، اختار سـينديلار الاعتزال فجأة في أوج عطائه، وتوفي في ظروف غامضة عام 1939، ويُعتقد على نطاق واسع أن وفاته كانت انتحارًا أو اغتيالًا بسبب موقفه السياسي.
على الجانب الآخر، اضطر العديد من اللاعبين الآخرين، مثل فيلهلم هانيمان وفرانز بيندر، إلى القبول بالواقع الجديد، كانت الخيارات أمامهم محدودة، فإمّا أن يلعبوا لألمانيا، وإمّا أن يواجهوا مصيرًا مجهولًا قد يصل إلى الاعتقال أو السجن، انضمّ 10 لاعبين نمساويين إلى المنتخب الألماني الذي شارك في كأس العالم 1938، وكان هذا المنتخب يُعرف بمنتخب "الرايخ"؛ لكنّ هذا الفريق الهجين لم ينسجم، وخرج من البطولة من الدور الأول. كانت هذه النتيجة صفعة قوية للآلة الدعائية النازية التي كانت تسعى لإظهار قوّتها عبر كرة القدم.
قصة ضمّ لاعبي النمسا إلى ألمانيا تُعدّ تذكرة مؤلمة بأنّ الرياضة ليست بمنأى عن السياسة، إنّها قصة موهبة عظيمة، هيمنت على أوروبا؛ لكنّها فُرّقت وشُتّتت بسبب قرار سياسي قسري، كان مصير بعض اللاعبين مأساويًا، حيث دفعوا ثمن مواقفهم السياسية، بينما اضطر آخرون إلى التكيّف مع واقع فرض عليهم.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستعادة النمسا لاستقلالها، عادت كرة القدم الوطنية من جديد؛ لكنّ جيل "فريق العجب" كان قد تبدّد، هذه القصة تظلّ شاهدة على أنّ الرياضة يمكن أن تكون أداة للقمع بقدر ما يمكن أن تكون أداة للحرية، وتؤكد أنّ فصلها عن السياسة هو مجرّد حلم.