تعد العلاقة بين تركيا وأرمينيا نموذجًا فريدًا للقطيعة الدبلوماسية والجغرافية، حيث تفصل بين الجارين حدود مغلقة منذ عام 1993، بسبب إرث تاريخي ثقيل يتعلق بأحداث عام 1915 في زمن الإمبراطورية العثمانية، والخلاف حول إقليم ناغورنو قره باغ بين أرمينيا وحليفة تركيا، أذربيجان.. وفي خضم هذا التوتر، برزت الرياضة، وتحديدًا كرة القدم، كجسر هش ولكنه حيوي حاولت الدولتان عبوره مرارًا لكسر الجمود السياسي.
على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية، إلا أن كرة القدم نجحت في فرض مواجهات رياضية محدودة بين المنتخبين، محولة الملاعب إلى ساحات للقاءات السياسية غير المباشرة.
كانت اللحظة الأبرز في عام 2008، عندما لعب المنتخب التركي ضد نظيره الأرمني ضمن تصفيات كأس العالم 2010.. ما جعل هذه المباراة تاريخية هو أن الرئيس الأرمني آنذاك، سيرج سركيسيان، دعا نظيره التركي عبد الله غول لحضور المباراة في يريفان.. شكلت تلك الزيارة ما سُمي بـ "دبلوماسية كرة القدم"، وكانت أول زيارة يقوم بها رئيس تركي لأرمينيا على الإطلاق، معطيةً أملًا عابرًا في تطبيع العلاقات.
تكررت هذه اللقاءات مؤخرًا، حيث التقى المنتخبان مجددًا في تصفيات كأس أمم أوروبا 2024، في مارس وسبتمبر 2023.. ورغم أن هذه المباريات انتهت بفوز تركيا، إلا أن دلالاتها السياسية كانت أعمق بكثير من النتيجة الرياضية، فقد جاءت في وقت تشهد فيه العلاقات محاولات جادة لاستئناف محادثات التطبيع وفتح الحدود البرية المغلقة.
لكن تأثير السياسة لا يقتصر على مجرد عقد اللقاءات، فالخلافات التاريخية والجغرافية تُترجم مباشرة إلى شحن جماهيري وسياسي حول هذه المباريات النادرة.
ويظل النزاع حول قره باغ وتضامن تركيا المطلق مع أذربيجان هو العقبة الأكبر، فإغلاق تركيا حدودها البرية مع أرمينيا عام 1993 جاء دعمًا لأذربيجان، وما زالت أنقرة تشترط استقرار الوضع في القوقاز والتزام أرمينيا بـ "حسن النية تجاه أذربيجان" كشرط أساسي لفتح الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة.
وتلقي قضية أحداث 1915 (الإبادة الأرمنية المزعومة) بظلالها على أي تقارب.. فبينما ترفض تركيا توصيف هذه الأحداث بإنها "إبادة جماعية"، تصر يريفان على الاعتراف الدولي بها، هذا الخلاف يغذي التوتر، وغالبًا ما يحضر في شعارات الجماهير.
اليوم، تظهر مؤشرات جديدة على أن "دبلوماسية كرة القدم" قد تتحول إلى "دبلوماسية اقتصادية".. فبعد انتهاء حرب قره باغ الثانية في عام 2020 وتغير قواعد اللعبة الإقليمية، أزيل المبرر الأساسي الذي دفع تركيا لقطع علاقاتها عام 1993.. وقد عينت الدولتان مبعوثين خاصين لتطبيع العلاقات في 2021، وبدأتا خطوات لفتح المعابر البرية وتسيير رحلات جوية منتظمة.