تُعدّ عملية إعادة إعمار قطاع غزة واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا في الشرق الأوسط، لما تحمله من أبعاد إنسانية وسياسية وأمنية واستراتيجية في آنٍ واحد، ومع كل حرب تترك دمارًا هائلًا في القطاع، تبرز مصر كلاعبٍ أساسي لا يمكن تجاوزه، بحكم موقعها الجغرافي وصلاتها التاريخية بالشعب الفلسطيني، إلى جانب تحكمها بالمعبر البري الوحيد غير الخاضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة.

 

حضور تاريخي وموقع جغرافي استثنائي

 

منذ عام 1948، لعبت مصر أدوارًا متباينة في قطاع غزة، حيث تولّت إدارته سياسيًا وإداريًا حتى نكسة 1967، ومع تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وفرض الحصار على غزة، تصاعد الدور المصري في إدارة المعابر وتقديم الدعم الإنساني والإغاثي، خصوصًا من خلال معبر رفح.

 

المعبر الذي ظل شريان الحياة الوحيد لأكثر من مليوني فلسطيني، بات ورقة استراتيجية بيد القاهرة، تستثمرها في توسيع دورها الإقليمي، وتعزيز أمنها القومي، والتحكم في وتيرة الإعمار والعبور.

 

مراحل مساهمة مصر في إعادة الإعمار

 

منذ عام 2008، كانت مصر حاضرة بقوة في مشهد ما بعد الحروب التي شُنّت على غزة ففي عام 2009، وبعد انتهاء الحرب الأولى، احتضنت القاهرة مؤتمر التعهدات الدولي، وبلغت التقديرات الأولية لإعادة الإعمار حينها نحو 4.48 مليار دولار.

 

وفي عام 2014، كررت مصر دور الوسيط لوقف إطلاق النار، وأعلنت دعمها لخطة إعادة إعمار بلغت تكلفتها نحو 6 مليارات دولار. أما في عام 2021، فقد أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي تخصيص 500 مليون دولار لصالح إعادة الإعمار، ودفعت مصر بمعدات ثقيلة وفرق هندسية وشركات وطنية إلى داخل القطاع.

 

وبعد الحرب المدمّرة في 7 أكتوبر 2023، والتي أسفرت عن تدمير شامل للبنية التحتية، أعلنت مصر عن خطة إعمار جديدة وطموحة لعام 2025، تتراوح تكلفتها بين 53 و100 مليار دولار، على مراحل تمتد من ستة أشهر حتى خمس سنوات.

 

خطة مصرية متكاملة إعمار متعدد المراحل

 

الخطة الجديدة التي أعلنتها القاهرة تتضمن إزالة الأنقاض، وبناء مساكن، وإنشاء مناطق صناعية، وموانئ، ومطار داخل القطاع، مع الإبقاء على السكان وعدم تهجيرهم. ويجري تنفيذ الخطة تحت إشراف السلطة الفلسطينية إداريًا، بدعم عربي وتمويل متنوع، وبمراقبة لجنة عربية مشتركة لضمان الشفافية وحسن التنفيذ.

 

الشركات المنفذة 

 

تستعد أكثر من 24 شركة مصرية وعربية للمشاركة في تنفيذ مشروعات الإعمار، من أبرزها: طلعت مصطفى القابضة، حسن علام القابضة، المقاولون العرب، السويدي إليكتريك، العرجاني القابضة، وأوراسكوم للإنشاء.

 

كما تم الإعلان عن تأسيس تحالف مصري–عربي للاستثمار الصناعي يضم 41 شركة وطنية، فيما يُتوقّع أن تضطلع مجموعة Organi Group بدور لوجستي رئيسي في تنسيق دخول مواد البناء إلى غزة.

 

4 عقبات والتحديات

 

رغم النوايا الطيبة والجهود المكثفة، تواجه عملية إعادة الإعمار جملة من العقبات، أبرزها:

 

القيود الإسرائيلية على دخول مواد البناء والمعدات الثقيلة.

 

الاعتبارات الأمنية في معبر رفح.

 

التمويل الدولي المشروط برقابة وإشراف خارجي.

 

المخاوف من الفساد أو تضارب المصالح داخل تحالفات الشركات الكبرى.

 

ويؤكد محللون أن أي تأخير في فتح المعابر أو إدخال المواد سيؤدي إلى تجميد مراحل الإعمار، ما يستدعي إشراك المنظمات الدولية كضامن أساسي.

 

التمويل هو التحدي الحقيقي

 

وفي تصريحات خاصة لموقع «خمسة سياسة»، قدّر الخبير الاقتصادي الدكتور علي الإدريسي التكلفة المبدئية لإعادة إعمار غزة بنحو 100 مليار دولار، مشيرًا إلى أن التحدي لا يكمن فقط في حجم الأموال، بل في إيجاد الممولين والداعمين القادرين على تحمّل هذا المشروع الضخم.

 

وأضاف أن مصر، رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة، تمتلك الخبرة الهندسية والتنفيذية التي تجعلها في موقع القيادة، لكنه شدد على ضرورة بناء شراكة بين القدرات المصرية والتمويل العربي والدولي لضمان النجاح.

 

الأبعاد الاجتماعية والإنسانية

 

وحذر الإدريسي من اختزال الإعمار في البعد الهندسي فقط، مؤكدًا أن "إعادة بناء الإنسان لا تقل أهمية عن إعادة بناء المكان". ودعا إلى إدماج البُعد الاجتماعي والنفسي في خطة الإعمار، من خلال توفير فرص العمل، وتأهيل المؤسسات التعليمية والصحية، لتعويض الأسر المنكوبة وضمان استدامة الحياة المدنية في القطاع.

 

المكاسب غير المباشرة لمصر

 

يرى مراقبون أن استقرار غزة يمثل استثمارًا استراتيجيًا لمصر، وليس مجرد التزام أخلاقي. فنجاح الإعمار سينعكس إيجابًا على الأمن القومي المصري، وتنشيط التجارة البينية عبر سيناء، وتحسين مناخ الاستثمار والسياحة في شمال سيناء.

 

كما أن مساهمة الشركات المصرية الكبرى في الإعمار، تمنح الاقتصاد المصري دفعة قوية، وتفتح آفاقًا جديدة للشراكة الإقليمية والدولية في مشاريع التنمية.

 

 

 

في الختام، فإن إعادة إعمار غزة ليست مجرد مشروع هندسي ضخم، بل مهمة تاريخية لإعادة بناء الأمل، وإعادة الحياة لشعب أنهكته الحروب. ومصر، بما تملكه من عوامل جغرافية وهندسية وسياسية، تقف اليوم على أعتاب قيادة مرحلة جديدة في مسار الإعمار، لن يُقاس نجاحها بعدد المباني المشيّدة، بل بعدد الأرواح التي تُعاد إليها الحياة.