في قلب العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس، لا يمثل ديربي "سوبر كلاسيكو" بين ريفر بليت وبوكا جونيورز مجرد مباراة كرة قدم عادية، بل هو انعكاس حي لصراع طبقي وسياسي واجتماعي يعود إلى قرن من الزمان، هذا الديربي، الذي وُصف بأنه "الأكثر عدائية في العالم"، يجسد انقسامًا عميقًا في نسيج المجتمع الأرجنتيني، حيث تتجاوز جذور العداء حدود المستطيل الأخضر لتغوص في تاريخ البلد الغني بالصراعات.
يعود تاريخ هذا الصراع إلى بدايات القرن العشرين، وتحديدًا في حي "لا بوكا" الفقير، وهو ميناء رئيسي للعاصمة، في تلك الأجواء، نشأ فريقا بوكا وريفر بليت جنباً إلى جنب، كان بوكا جونيورز هو فريق العمال المهاجرين، والطبقة الكادحة، وممثل الجماهير التي كانت تعيش على ضفاف الميناء، وتعمل في ظروف صعبة، لون قميصهم الأزرق والأصفر المستوحى من علم السويد، كان رمزًا لعمال الميناء الذين كانوا يستقبلون السفن السويدية القادمة إلى الأرجنتين.
على النقيض، كان ريفر بليت يمثل الطبقة الأرستقراطية والغنية، عندما انتقل الفريق من حي "لا بوكا" إلى حي "نونييث" الراقي، شمال العاصمة، رسّخ هذا الانتقال صورته كفريق للأثرياء، هذه الهجرة الجغرافية عززت الانقسام الطبقي بين الناديين وجماهيرهما، أطلقت جماهير بوكا على لاعبي ريفر لقب "المليونيرات"، في إشارة ساخرة إلى ثرائهم، بينما ردت جماهير ريفر بلقب "الدجاج" على لاعبي بوكا، ما يعكس طبيعة الاحتقان الذي كان ينمو بين الطرفين.
لكن الصراع لم يقتصر على الجانب الطبقي فحسب، بل امتد إلى السياسة. خلال فترة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي، ارتبطت جماهير بوكا، بحكم انتمائها للطبقة العاملة، بالتيارات اليسارية والاشتراكية، وعلى الجانب الآخر، ارتبط ريفر بليت، بسبب قاعدته الجماهيرية الغنية، بالطبقات الحاكمة والمحافظة، هذا الارتباط جعل من كل مباراة "سوبر كلاسيكو" ساحة لمعركة سياسية غير معلنة، حيث تتصادم الأيديولوجيات على المدرجات.
الأسباب التي تؤدي إلى هذا الاحتقان تتجدد مع كل مباراة، ففي كل لقاء، لا يتنافس الفريقان على الفوز فقط، بل على إثبات الهيمنة الاجتماعية، الهزيمة في ديربي كهذا لا تُعد مجرد خسارة رياضية، بل هي إهانة لكرامة الطبقة التي يمثلها الفريق، هذا الجو المشحون يؤدي في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف، وشغب جماهيري، وتوقيف للمباريات، كما حدث في نهائي كأس ليبرتادوريس 2018، الذي اضطر للانتقال إلى مدريد بسبب أعمال الشغب التي حدثت قبل المباراة.
ديربي بوكا جونيورز وريفر بليت ليس مجرد لقاء رياضي، بل هو مرآة تعكس تاريخًا طويلًا من الصراع الطبقي والسياسي في الأرجنتين، إنه مثال صارخ على كيف يمكن لكرة القدم أن تصبح ساحة لتصفية الحسابات الاجتماعية، حيث تتجاوز المنافسة الرياضية لتصبح جزءًا من الهوية والكرامة لكل مشجع، وهو ما يجعل هذا الديربي واحدًا من أكثر الأحداث الرياضية إثارة للجدل في العالم.