لطالما كان منتخب هولندا، أو "البرتقالي" كما يُعرف، كان أيقونة في عالم كرة القدم، ولم تقتصر شهرته على الأداء الفني الممتع والخططي المبتكر، بل امتدت لتشمل فلسفة فريدة من نوعها، تعتمد على اللعب الجماعي النقي والتكامل بين اللاعبين، مع التمسك بأسلوب "الكرة الشاملة" التي أُسست على يد الأسطورة يوهان كرويف، إلا أن هذا المنتخب، وفي لحظة مفصلية في تاريخه بكأس العالم، اختار أن يقلب صفحة جديدة، صفحة كتبها بصوت الضمير والعودة إلى جوهر الكرة، تاركًا خلفه أي أداء غير مخلص للفلسفة الهولندية.
في بطولات كأس العالم الماضية، شهدنا لحظات من اللعب المتقلب للمنتخب الهولندي، فمرة كان يلعب بالروح القتالية والجمالية، ومرة أخرى كان يقدم أداءً باهتًا، يبدو وكأنه فقد اتصاله بجذوره، هذا التذبذب في الأداء كان يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في الفوز بأي ثمن، وبين الحفاظ على الهوية الكروية التي تجعله محبوبًا لدى الملايين حول العالم، هذا الصراع بلغ ذروته في نسخة كأس العالم الأخيرة، حيث كانت الآمال معلقة على هذا الفريق، خاصة بعد الأداء المبهر في التصفيات.
لكن ما حدث على أرض الملعب كان مختلفًا تمامًا، في بعض المباريات، ظهر المنتخب الهولندي متخليًا عن أسلوبه المميز، كانت هناك لحظات من التحفظ المبالغ فيه، والاعتماد على الكرات الطويلة، واللعب الدفاعي، وهو ما أثار غضب الجمهور والنقاد على حد سواء، فقد شعر الكثيرون بأن الفريق فقد بوصلته، وأن المدرب لم يجد الطريقة الصحيحة لدمج المواهب الشابة مع اللاعبين المخضرمين، مما أدى إلى غياب الانسجام والتناغم على أرض الملعب.
لكن في لحظة حاسمة، بدا أن "صوت الضمير" قد عاد بقوة، في إحدى المباريات المصيرية، وبعد أداء متواضع في الشوط الأول، عاد المنتخب الهولندي في الشوط الثاني بشكل مختلف تمامًا، عاد إلى اللعب الهجومي، والضغط العالي، والتمريرات السريعة، عاد إلى فلسفته التي تعشق الكرة الممتعة، هذه العودة لم تكن مجرد تغيير في الخطة، بل كانت بمثابة إعلان عن عودة الروح، كان اللاعبون يقاتلون من أجل شعار المنتخب، ولكن هذه المرة بأسلوب يمثلهم.
هذه العودة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة لوعي جماعي، أدرك اللاعبون والمدرب أهمية العودة إلى الجذور، وأن الفوز ليس كل شيء إذا لم يكن مصحوبًا بالهوية والاحترام، هذا التحول لم يكن سهلًا، فقد واجه الفريق انتقادات لاذعة؛ لكنه اختار الاستماع إلى صوت ضميره، وعاد ليقدم لنا لمحة من سحر الكرة الشاملة.
ويمكن القول إن مسيرة منتخب هولندا في كأس العالم لم تكن مجرد قصة عن الأداء الفني، بل كانت قصة عن الهوية، قصة عن فريق أدرك أن قيمته الحقيقية لا تكمن فقط في عدد الأهداف التي يسجلها، بل في الطريقة التي يلعب بها، لقد اختار أن يتقلب بصوت الضمير، ليعود إلى جوهر الكرة، ويذكرنا بأن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل هي فلسفة وروح.